صراع بن غفير والشاباك- الأقصى ساحة لتصفية الحسابات الإسرائيلية

المؤلف: د. عبد الله معروف11.03.2025
صراع بن غفير والشاباك- الأقصى ساحة لتصفية الحسابات الإسرائيلية

لا يكاد يمر يوم في هذه الحقبة الزمنية دون أن يتبوأ وزير الأمن القومي الكاهاني المتطرف، إيتمار بن غفير، صدارة الأخبار بتصريحاته الغزيرة المتطرفة حيال كل مستجد يتعلق بالحرب الدائرة في غزة، أو الصراع المحتمل مع إيران أو حزب الله، أو حتى القضايا الداخلية الإسرائيلية الشائكة، مثل تجنيد الحريديم وغير ذلك من المسائل الخلافية.

فإيتمار بن غفير يجسد اليوم الصوت الأكثر صخبًا وتطرفًا داخل التيار الصهيوني الديني اليميني المتشدد، المهيمن في حكومة نتنياهو الراهنة. لقد بات، في واقع الأمر، بمثابة رأس الحربة الذي يعتمده بتسلئيل سموتريتش، زعيم تيار الصهيونية الدينية، في توجيه الضربات الموجعة لخصوم التيار داخل إسرائيل، وإعلاء صوت اليمين المتطرف في كل مناسبة.

فسموتريتش يدرك تمام الإدراك أن قوة بن غفير الكامنة تكمن في فصاحة لسانه الحادة وفي خطاباته الشعبوية المؤثرة، والتي تصب في مصلحة تيار الصهيونية الدينية. إنه ينطق علانية بما يعجز الآخرون عن البوح به جهارًا، ويؤدي الدور المنوط به في هذا المضمار بإتقان واحترافية عاليتين. ومن جانبه، يأمل بن غفير من خلال ذلك أن يكرس في أذهان أنصار اليمين في إسرائيل صورته كقائد قوي وصلب لا يهاب أحدًا أو شيئًا، وأنه يمثل البديل الأقوى والأكثر جدارة ببنيامين نتنياهو لقيادة معسكر اليمين بأكمله، وليس فقط أقصى اليمين المتطرف.

لقد انطلقت التحذيرات من جميع أصقاع العالم من مغبة خطورة بن غفير وتهوره البالغ في تصرفاته غير الرشيدة. لكن جوهر المشكلة لا يكمن في تصريحات هذا المتهور أو سلوكياته الطائشة التي دفعت خصومه في إسرائيل إلى تلقيبه بـ "وزير التيك توك"، وإنما في كونه المسؤول الأول عن أهم جهاز أمني تنفيذي في إسرائيل، ألا وهو جهاز الشرطة الخاضع لوزارة الأمن القومي التي يترأسها بن غفير. وهذا يعني بالضرورة أن شخصًا متطرفًا كهذا أصبح المسؤول المباشر عن جهاز الشرطة المكلف بتنفيذ القرارات الحكومية الأمنية على أرض الواقع.

وفي هذا السياق، شرع بن غفير منذ توليه منصبه في الاصطدام بالقوى الأمنية العميقة في إسرائيل، والتي لا تعير الاعتبارات السياسية أدنى اهتمام، بقدر ما تركز على الاعتبارات الأمنية الجوهرية المتعلقة بحماية إسرائيل، حتى من نفسها.

ولعل أبرز الأجهزة المعروفة حتى الآن بتنحيتها الاعتبارات السياسية جانبًا وإيلائها الأهمية القصوى للمعايير المهنية البحتة، لا يزال جهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلي (الشاباك)، وهو الجهاز الأمني الأقوى والأكثر نفوذًا داخل إسرائيل، يحظى بدعم أمريكي كامل، وينعم بثقة راسخة في مختلف الدوائر السياسية حول العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة.

في الواقع، لا يخفى على المتابعين للشأن الإسرائيلي الداخلي مظاهر المعركة الشرسة الدائرة بين بن غفير وجهاز (الشاباك)، والتي تتجلى فصولها في منطقة القدس والضفة الغربية أكثر من أي منطقة أخرى. فقد بات (الشاباك) ينظر إلى بن غفير على أنه يشكل خطرًا حقيقيًا يهدد إسرائيل.

ففي حين يبذل جهاز (الشاباك) قصارى جهده لتخفيف الضغط المتزايد على الجيش والحكومة الإسرائيلية في القدس، ومنع تدهور الأوضاع المتوترة هناك إلى صدام عنيف قد يمتد إلى الضفة الغربية ويتحول إلى كابوس انتفاضة فلسطينية ثالثة، رأينا التيار الصهيوني الديني الخلاصي يسعى جاهدًا طوال الأشهر الماضية إلى استغلال أحداث الحرب على غزة في محاولة يائسة لتحقيق مكاسب جديدة في القدس، وفي المسجد الأقصى، وذلك عبر التصعيد الغير مسبوق في المسجد.

وقد استغل هذا التيار في مسعاه الأوامر والتوجيهات التي أصدرها بن غفير لشرطته، والتي تقضي بتسهيل عمليات الاقتحام المتتالية للمسجد الأقصى طوال فترة الحرب، وذلك في مقابل ممارسة ضغوط شديدة على الفلسطينيين في المسجد، ومنعهم بشكل شبه كامل من الدخول في أول شهرين من الحرب، والضغط المتواصل باتجاه تقليل أعداد المسموح لهم بدخول المسجد الأقصى بعد ذلك.

ومع حلول شهر رمضان المبارك، هدد بن غفير بتطبيق سياسة "صفر فلسطينيين" في المسجد الأقصى، لكن جهاز (الشاباك) سرعان ما عارض ذلك وقدم رؤية بديلة اضطرت حكومة نتنياهو لتبنيها تحت ضغط أمريكي مكثف. وقد أدى تبني رؤية جهاز (الشاباك) بشأن التعامل مع شهر رمضان في الأقصى إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة في المسجد الأقصى طوال شهر رمضان الماضي؛ بهدف تخفيف الاحتقان الداخلي قدر الإمكان، وذلك من خلال استعمال أساليب مختلفة في ضبط وتقييد أعداد الفلسطينيين في المسجد بأسلوب ناعم نسبيًا، ثم منع شرطة الاحتلال الناشطين المتطرفين في إسرائيل من أداء الطقوس التي كانوا يترقبون تنفيذها، وعلى رأسها عملية التطهير بذبح البقرة الحمراء يوم عيد الفطر، والتي تبين لاحقًا أن القائمين عليها أجلوا تنفيذ الفكرة حاليًا؛ خشية التهديد بالاعتقال من قبل جهاز (الشاباك) بتهمة تعكير الأمن الداخلي.

ومع انقضاء شهر رمضان المبارك، واتضاح النجاح النسبي الذي حققته رؤية جهاز (الشاباك) بدعم وإشراف أمريكي مباشر، بدأت جماعات اليمين الصهيوني الديني المتطرف المدعومة من بن غفير في التحضير لموسم اقتحامات عيد الفصح العبري، وبادرت بالترويج منذ فترة مبكرة لضرورة أداء القرابين الحيوانية داخل المسجد ابتداءً من الليلة الأولى في هذا العيد.

لكن جهاز (الشاباك) سارع بالاتصال بالقائمين على منظمات ما يسمى "اتحاد منظمات المعبد" المتطرفة، وحذرهم من أداء الطقوس داخل المسجد الأقصى، بل وأصدر قرارًا بمنع عدد من قادة هذه المنظمة ومنظمة "بيدينو" وغيرهما من دخول البلدة القديمة بالقدس لمدة ثلاثة أشهر.

وعلى الفور، رد بن غفير على تحركات (الشاباك) في اليوم التالي، وأعلن عن نيته طرح تغيير كامل في الوضع القائم في المسجد الأقصى على جدول أعمال وزارته من خلال جهاز الشرطة الذي يسيطر عليه من خلال الوزارة، وأعلن عن نية وزارته إعلان "المساواة بين المسلمين واليهود في حق الصلاة" في المسجد الأقصى المبارك بشكل رسمي وقانوني، بما يتنافى مع قانون الوضع القائم وحتى تفاهمات كيري لعام 2015، وتكثيف وجود الشرطة وكاميرات المراقبة داخل المسجد. وهذا يعني أنه يعلن بذلك منح الحماية القانونية الحكومية لجماعات المعبد المتطرفة التي تشكل ذراعًا من أذرع تيار الصهيونية الدينية في القدس.

في الحقيقة، لا يمكن فهم هذه العملية إلا من خلال كونها تحديًا سافرًا لجهاز (الشاباك)، ومحاولة يائسة من بن غفير لإثبات نفسه في الساحة، ولا سيما في القدس. وهذا ما شجع منظمات متطرفة مثل منظمة "عائدون للجبل" إلى إعلان طرح جوائز مالية تصل إلى خمسين ألف شيكل (حوالي 13 ألف دولار) لمن يتمكن من تهريب ماعز وذبحه داخل المسجد الأقصى خلال أيام عيد الفصح العبري هذا الشهر.

ولا يسعنا هنا أن نغفل عن غضب المستوطنين الذي توجه نحو بن غفير نفسه عندما أعلنت حكومة نتنياهو، بناءً على توصية من جهاز (الشاباك)، إغلاق المسجد الأقصى في نهاية رمضان الماضي لمدة 16 يومًا بدلًا من 12 أو 13 يومًا، كما حدث في الأعوام الماضية. فقد توجه المستوطنون الغاضبون إلى مستوطنة "كريات أربع" قرب مدينة الخليل – حيث يقيم بن غفير – وتظاهروا أمام بيته معربين عن احتجاجهم العميق وعدم رضاهم عن عدم قدرته على تنفيذ وعوده لهم وفتح الأقصى لهم بشكل دائم.

وليس ببعيد عن كل ذلك إعلان بن غفير الأخير عن استعداده لاستيعاب جنود وحدة "نتساح يهودا" التابعة للجيش الإسرائيلي في جهاز شرطة حرس الحدود في الضفة الغربية، وهي مليشيا تابعة لوزارته. وكان إعلانه هذا بمثابة الرد العملي الوحيد بين وزراء الحكومة الإسرائيلية على إعلان وزارة الخارجية الأميركية عن نيتها فرض عقوبات على وحدة "نتساح يهودا" التابعة للجيش الإسرائيلي، والتي تتكون من مجموعات من المتدينين الحريديم إلى جانب عدد من المستوطنين المتطرفين المعروفين باسم "فتية التلال"؛ بسبب الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها هذه الوحدة في الضفة الغربية، والتي شملت قتل مواطن أميركي.

إن إعلان بن غفير عن تحديه لهذا القرار بهذه الطريقة يعتبر محاولة منه لجعل نفسه المرجعية والحامي الأول لليمينيين المتشددين في إسرائيل. وهو الأمر الذي دفع رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إلى التصريح بأن بن غفير يشكل خطرًا محدقًا على دولة إسرائيل نفسها، وبأنه لم يسبق لوزير في مجلس الدفاع أن ألحق هذا القدر الهائل من الضرر بأمن إسرائيل وصورتها ومكانتها الدولية. وهو فعليًا نفس التقييم الذي يحمله له جهاز (الشاباك) المدعوم أميركيًا كما بينا سابقًا.

إذن، نحن أمام قطبين يتصارعان في هذا الميدان: بن غفير ومن خلفه تيار الصهيونية الدينية برئاسة سموتريتش وحشود اليمينيين في إسرائيل من جهة، و(الشاباك) ومن خلفه المنظرون الاستراتيجيون في إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. ومن المثير للرعب أن ميدان هذا الصراع بات ينتقل بشكل جلي وواضح إلى القدس، بل إلى قلب المسجد الأقصى نفسه. فانتقال ميدان الصراعات الإسرائيلية الداخلية إلى القدس والمقدسات الإسلامية يشكل مؤشرًا خطيرًا على أن إسرائيل باتت تعتبر القدس ساحة لتصفية حساباتها الداخلية.

ولئن كانت هذه الصراعات الداخلية الإسرائيلية تبدو نظريًا خارج إطار الاهتمام الفلسطيني والعربي والإسلامي، إلا أنها في الحقيقة مسألة في غاية الحساسية والخطورة، إذ إنها تعني أن الثمن الذي سيدفعه المسجد الأقصى والمقدسيون سيكون باهظًا أيًا كان المنتصر في المعركة الإسرائيلية الداخلية.

فالمعركة بين بن غفير وجهاز (الشاباك) لا تعتبر معركة فردية أو شخصية، وإنما تعتبر في حقيقة الأمر واحدة من تجليات الشرخ العميق المتسع الذي يشق إسرائيل رأسيًا اليوم بين التيارات الدينية اليمينية والتيارات اليسارية العلمانية، والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت.

وعليه، فالواجب يحتم علينا التنبّه لأي صغيرة وكبيرة تجري في المسجد الأقصى بشكل يومي، والكف عن التعامل مع الأقصى دون اعتبار لخطورة ما يجري في الساحة الداخلية الإسرائيلية حوله، خاصةً في ظل الحديث والجدل المحتدم حول القدس والضفة الغربية في داخل أروقة الحكم والأمن الإسرائيلية.

فالشيء الذي يجتمع عليه الإسرائيليون من كافة الأطياف والاتجاهات هو العداء المستحكم لكل ما يرمز للسيادة الفلسطينية أو العربية أو الإسلامية بين النهر والبحر، وإن لم تكن القدس والمسجد الأقصى الرمز الأبرز والأكثر وضوحًا لهذه السيادة.. فماذا يكون؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة